فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (59):

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)}
المحِبُّ غيورٌ؛ فلمَّا كان يعقوبُ عليه السلام قد تَسَلَّى عن يوسف برؤية ابنه بنيامين غار يوسف أن ينظر إليه يعقوب.
ويقال تَلَطَّفَ يوسف في استحضار بنيامين بالترغيب والترهيب، وأما الترغيب ففي مالِه الذي أوصله إليهم وهو يقول: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّىِ أُوفِى الْكَيْلَ} وفي إقباله عليهم وفي إكرامه لهم وهو يقول: {وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}.
وأمّا الترهيب فبمنع المال.

.تفسير الآية رقم (60):

{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)}
أي فإن لم تؤامِنوني عليه فلا كيل لكم عندي، وأمنع الإكرام والإقبال عنكم.

.تفسير الآية رقم (61):

{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)}
لما عَلِمَ يوسفُ من حالهم أنهم باعوه بثمنٍ بَخْسٍ عَلِمَ أنهم يأتونه بأخيهم طمعاً في إيفاء الكيل، فلن يَصْعُبَ عليهم الإتيان به.

.تفسير الآية رقم (62):

{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)}
جَعْلُ بضاعتهم في رحالهم- في باب الكَرَم- أتمُّ مِنْ أنْ وَهَبَها لهم جَهْرَاً؛ لأنه يكون حينئذٍ فيه تقليد منه بالمواجَهَةِ، وفي تمليكها لهم بإشارةٍ تجَرُّدٌّ مِنْ تكلُّفِ تقليد منه بالمحاضرة.
ويقال عَلِمَ أنهم لا يَسْتحلُّون مالَ الغَيْر قَدَسَّ بضاعتَهم في رحالِهم، لكن إذا رأَوْها قالوا: هذا وقع في رحالنا منهم بِغَلَطٍ، فالواجبُ علينا ردُّها عليهم. وكانوا يرجعون بسبب ذلك شاءوا أم أَبَوْا.

.تفسير الآية رقم (63):

{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)}
لم يمنع يوسفُ منهم الكيْلَ، وكيف مَنَعَ وقد قال: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِى أُوفِى الْكَيْلَ}؟
ولكنهم تجوزوا في ذلك تفخيماً للأمر حتى تسمح نَفْسُ يعقوب عليه السلام بإرسال بنيامين معهم.
ويقال أرادوا بقولهم: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} وفي المستقبل إذا لم تَجْمِلْه إليه.
ويقال إنهم تَلَطَّفُوا في القول ليعقوبَ- عليه السلام- حيث قالوا: {أَخَانَا} إظهاراً لشفقتهم عليه، ثم أكَّدوا ذلك بقولهم: {وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

.تفسير الآية رقم (64):

{قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}
قوله جلّ ذكره: {قَالَ هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عِلِى أَخِيهِ مِن قَبْلُ}.
مَنْ عَرَفَ الخيانة لا يلاحظ الأمانة، ولذا لم تَسْكنْ نَفْسُ يعقوب بضمانهم لِمَأ سَبَقَ إليه شأنهم.
قوله جلّ ذكره: {فاللَّهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين}.
{فاللّهُ خيرُ حافظاً}: يحفظ بنيامين فلا يصيبه شيءٌ من قِبَلِهم.
ولم يقل يعقوب فاللّه خيرُ مَنْ يَرُدُّه إليَّ، ولو قال ذلك لعلَّه كان يرده إليه سريعاً.

.تفسير الآية رقم (65):

{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)}
بيّن يوسفُ- عليه السلام- أنه حين عاملهم لم يَحْتَجْ إلى عِوَضٌ يأخذه منهم، فلمَّا باعهم وجَمَعَ لهم الكيلَ ما أخذ منهم ثمناً، والإشارة من هذا إلى قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ} [الإسراء: 7].
وكلُّ مَنْ خطا للدِّين خطوةً كافأه اللَّهُ تعالى وجازاه، فَجَمَع به بين رَوْحِ الطاعةِ ولذَّةِ العيش من حيث الخدمة.

.تفسير الآية رقم (66):

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}
إنَّ الحَذَرَ لا يُغْنى من القَدَر. وقد عَمِل يعقوب- عليه السلام- معهم في باب بنيامين ما أمكنه من الاحتياط، وأخذ الميثاق ولكن لم يُغْنِ عنه اجتهادُه، وحَصَلَ ما حكم به الله.

.تفسير الآية رقم (67):

{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)}
يحتمل أن يكون أراد تفريقهم في لدخول لعلَّ واحداً منهم يقع بَصَرُه على يوسف، فإن لم يره أحدهم قد يراه الآخر.
ويقال ظنَّ يعقوب أنهم في أمر يوسف كانوا في شدة العناية بشأنِه، ولم يعلم أنهم كارهون لمكانه.

.تفسير الآية رقم (68):

{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)}
إن لم يحصل مقصودُ يعقوب عليه السلام في المآل حصل مراده في الحال، وفي ذلك القَدْرِ لأرباب القلوب استقلال.
ويقال على الأصاغر حفظُ إشاراتِ الأكابر، والقولُ فيما يأمرون به هل فيه فائدةٌ أم لا- تَرْكٌ للأدب.
ويقال إذا كان مثل يعقوب عليه السلام يشير على أولاده ويتمنَّى به حصولَ مرادِه..
ثم لا يحصل مرادُه عُلِمَ أنه لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ في الشيوخ أنَّ جميع ما يريدون يتَّفِقُ كونُه على ما أرادوا؛ لأَنَّ الذي لا يكونُ إلا ما يريده واجباً وما أراده فهو كائن.. هو اللَّهُ الواحدُ القهارُ.

.تفسير الآية رقم (69):

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)}
حديثُ المحبةِ وأَحكامها أقسام: اشْتَاقَ يعقوبُ إلى لقاء يوسف عليهما السلام فَبَقِيَ سنين كثيرة، واشتاقَ يوسف إلى بنيامين فَرُزِقَ رؤيته في أَوْجِزِ مدةٍ.
وهَكَذَا الأمر؛ فمنهم موقوفٌ به، ومنهم صاحب بلاء.
ويقال لئن سَخِنَت عين يعقوب عليه السلام بمفارقة بنيامين فلقد قَرَّتْ عيْنُ يوسفَ بلقائه. كذا الأمر: لا تَغْرُبُ الشمس على قوم إلا وتطلع على آخرين.

.تفسير الآية رقم (70):

{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)}
احتمل بنيامينُ ما قيل فيه من السرقة بعدما التقى مع يوسف.
ويقال: ما نُسِبَ إليه من سوء الفعال هان عليه من جَنْبِ ما وجد من الوصال.
ويقال لئن نُسَبَ أخاه للسرقة تعرَّف إليه بقوله: {إِنِّى أََنَا أَخُوكَ}- سِرَّاً، فكان مُتَحَمِّلاً لأعباء الملامة في ظاهره، محمولاً بوجدان الكرامة في سِرِّهِ، وفي معناه أنشدوا:
أَجِدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ** حُبّاً لذكرك فَلْيَلُمْني اللُّومُ

.تفسير الآية رقم (73):

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)}
يعني حُسْنُ سيرتنا في سير المعاملة يدلكم على حسن سريرتنا في الحالة. ويقال لو كُنَّا نسرق متاعكم لما رددناه عليكم ولَمَا وجدتموه في رحالنا بعد أَن غِبْنَا عنكم.

.تفسير الآية رقم (74):

{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)}
تَجَاسَرَ إخوةُ يوسف بجريان جزاءٍ السَّرِقةِ عليهم ثقةً بأنفسهم أنهم لم يُباشِروا الزَّلَّة، وكان بنيامينُ شريكَهم في براءة السَّاحةِ، فلما استُخْرِجَ الصَّاعُ مِنْ وعائه بَسَطَ الإخوةُ فيه لسانَ الملامةِ، وبقي بنيامين فلم يكن له جوابٌ كأنَّه أقَرَّ بالسرقة، ولم يكن ذلك صدقاً إذ أنه لم يَسْرِقْ، ولو قال: لم أَفْعَلْ لأفشى سِرّ يوسف عليه السلام الذي احتال معهم ذلك لأجْلِه حتى يُبْقِيه معه، فَسَكَتَ لسان بينامين، وتحقَّق بالحالِ قَلْبُه.
ويقال لم يستصعب الملامة- وإنْ كان بريئاً- مما قُرِنَ به، ولا يَضُرُّ سوءُ المقالةِ بالمكاشفين بعد حَسْنِ الحالةِ مع الأحباب.
ويقال سيئ بما أَظْهَرَتْ عليه المقالة، ولكن حَصَلَ له بذلك صفاءُ الحالة.

.تفسير الآية رقم (77):

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)}
كان بنيامينُ بريئاً مما رُميَ به من السرقة، فأنطقهم الله تعالى حتى رَمَوْا يوسف عليه السلام بالسرقة، واحدٌ بواحد ليَعْلَم العالمون أَنَّ الجزاءَ واجبٌ.
ويقال كان القُرْحُ بالقَدح أوجعَ ما سَمِعَه يوسف منهم حيث قالوا: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ} فقد كان ذلك أشدَّ تأثيراً في قلبه من الجفاءِ الأول.
ويقال إذا حَنِقَ عليك المِلكُ فلا تأمَنْ غِبَّه- وإنْ طالت المدة- فإن يوسف عليه السلام حَنِق عليهم فلقوا في المستأنف منه ما ساءَهم مِنْ حَبْسِ أخيه، وما صاحبهَم من الخَجل من أبيهم.

.تفسير الآية رقم (78):

{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)}
لم تنفعهم كثرةُ التَّنَصُّل، وما راموا بهمن ذكر أبيهم ابتغاءَ التوسُّل، ولم ينفعهم ما قيل منهم حين عَرَضُوا عليه أن يأخذَ أحدَهم في البَدَل.. كذلك فكلٌّ مُطَالَبٌ بفعل نفسه: {لا تزِرُ وازرةٌ وزِرَ أخرى} [الأنعام: 64]؛ فلا الأبُ يُؤْخَذُ بَدَلَ الولد، ولا القريب يُرضَى به عوضاً عن أحد.

.تفسير الآية رقم (79):

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}
توهموا أن الحديث معهم من حيث معاملة الأموال، فعَرَضُوا أنفسهم كي يؤخذ واحدٌ منهم بَدَلَ أخيهم، ولم يعلموا أن يوسف عليه السلام كادَهم في ذلك، وأنَّ مقصودَه من ذلك ما استكَنَّ في قلبه مِنْ حُبِّ لأخيه، وكلاَّ.. أَنْ يكونَ عن المحبوبِ بَدَلٌ أو لقوم مقامُ أحدٍ وفي معناه أنشدوا:
إذا أَوْصَلْتَنا الخُلْدَ كيما تُذِيقنا أَبَيْنا وقُلْنا: أنتَ أَوْلَى إلى القلب
وقيل:
أُحِبُّ لَيْلَى وبُغِّضَتْ إليَّ ** نساءٌ ما لَهُنَّ ذُنُوبُ

.تفسير الآية رقم (80):

{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)}
لما عَلِموا أن يوسف عليه السلام ليس يبرح عن أخيه خلا بعضُهم ببعضٍ فعملت فيهم الخجْلة، وعلموا أن يعقوب في هذه الكرَّةِ يتجدد له مثلما أسلفوه من تلك الفَعْلة، فلم يرجع، أكبرهم إلى أبيهم، وتناهى إلى يعقوبَ خَبَرُهم، فاتهمهم وما صدّقهم، واستخونهم وما استوثقهم.

.تفسير الآية رقم (81):

{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)}
كان لهم في هذه الكَرَّةِ حجة على ما قالوه، ولكن لم يسكن قلبُ يعقوب عليه السلام إليها، فإنَّ تعيُّنَ الجُرْمِ في المرة الأولى أَوْجَبَ التُّهمةَ في الكرَّةِ الأخرى.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)}
ما ازدادوا إقامةَ حُجَّةٍ إلا ازداد يعقوبُ- عليه السلام- في قولهم شُبْهةً.
ويقال: في مُساءلة الأطلال أَخْذٌ لقلوب الأحباب، وسَلْوةٌ لأسرارهم.. وهذا البابُ مما للشرح فيه مجال.

.تفسير الآية رقم (83):

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}
قوله جلّ ذكره: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ َجَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعاً}.
لجأ إلى قُرْبِ خلاصه من الضُرِّ بالصبر.
ويقال لما وعد من نفسه الصبر فلم يُمْسِ حتى قال: {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} ليُعْلَمَ أنَّ عَزْمَ الأحبابِ على الصبر منقوضٌ غيرُ محفوظ.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)}
تولَّى عن الجميع- وإن كانوا أولادَه- ليُعْلَمَ أَنَّ المحبةَ لا تُبْقي ولا نَذَر.
ويقال أراد إخوةُ يوسفَ أن يكونَ إقبال يعقوب عليهم بالكليَّة فأَعْرَضَ، وتولَّى عنهم، وفَاتَهُم ما كان لهم، ولهذا قيل: مَنْ طَلَبَ الكُلَّ فاته الكلُّ.
ويقال لم يَجِدْ يعقوبُ مُساعِداً لنفسِه على تأسفه على يوسف فتولَّى عن الجميع، وانفرد بإظهار، أسفه، وفي معناه أنشدوا:
فريدٌ عن الخِلاَّنِ في كل بلدةٍ ** إذا عَظُمَ المطلوبُ قَلَّ المُساعِدُ

ويقال كان بكاءُ داود عليه السلام أكثرَ من بكاء يعقوب عليه السلام، فلم يذهب بَصَرُ داود وذهْب بَصَرُ يعقوب؛ لأن يعقوب عليه السلام بكى لأَجْلِ يوسف ولم يكن في قدْرةِ يوسف أن يحفظَ بصره من البكاء لأجله، وأمَّا داود فقد كان يبكي لله، وفي قدرة الله- سبحانه- ما يحفظ بَصَرَ الباكي لأَجْلِه.
سمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق- رحمه الله- يقول ذلك، وقال رحمه الله: إن يعقوبَ بكى لأجل مخلوقٍ فذهب بَصَرَهُ، وداود بكى لأَجْل الله فبقي بَصَرُه.
وسمعته- رحمه الله- يقول: لم يقل الله: عَمِيَ يعقوب ولكن قال: {وَاْبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ}، لأنه لم يكن في الحقيقة عَمَىً، وإنما كان حجاباً عن رؤية غير يوسف.
ويقال كان ذهابُ بصرِ يعقوب حتى لا يحتاج إلى أن يرى غير يوسف، لأنه لا شيءَ أشدُّ على الأحبابِ من رؤية غير المحبوب في حال فراقه، وفي معناه أنشدوا:
لما تَيَقَّنْتُ أني لَسْتُ أُبْصرِكم ** أغمضتُ عيني فلم أنظر إلى أحد

وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول: كان يعقوب عليه السلام يتسلَّى برؤية بنيامين في حال غيبة يوسف، فلما بقي عن رؤيته قال: {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} أي أنه لما مُنِعَ من النظر كان يتسلى بالأثر، فلمَّا بقي عن النظر قال: يا أسفا على يوسف.